وليد عثمان

لا أعرف كيف يقضي المعزولون صحياً بعد عودتهم من الخارج أيامهم في المدينة الجامعية التابعة لجامعة القاهرة. والمؤكد أن معظمهم تجاوز عمر اً لايقبل معه العيش في هذه الغرفة الضيقة بمعايير من استمتع باتساع بيته، حتى إذا كان سكن في المدينة الجامعية أثناء دراسته.


هذه الغرفة ، على ضيقها، كانت أحد أوسع الأبواب على حياة جديدة بالنسبة لنا أبناء المحافظات الذين لم يكن أمام غالبيتهم خيار سوى الإقامة بالمدينة الجامعية حين التحقنا بجامعة القاهرة.


قليلون من نعموا بإقامة عند قريب لهم أو الاشتراك في السكن مع مجموعة في شقة .
***
"أكلوني البراغيث" كانت أغرب جملة صادفتنا في المدينة الجامعية . كان عدد من الزملاء يرددونها في ردهات المبنى الذي ضمنا، نحن طلاب كلية الإعلام، مع زملاء من كليات أخرى.


تصورنا أنها شكوى من براغيث في الأسرّة وأن هولاء لايملكون سبيلاً للشكوى إلا الصراخ بهذا الشكل قبل أن توجد مواقع التواصل الاجتماعي التي يتباهى أمامها رئيس الجامعة الآن بنظافة المباني والغرف بعد شكاوى من سوئها في مدن جامعية أخرى.


كان زميل من هؤلاء يحمل صراخه معه خارج الغرف ويمضي وحده، رغم أنه كفيف، في الممر الرئيسي للمدينة زاعقاً "أكلوني البراغيث".


في سعينا لمعرفة سبب هذا الصراخ ، اكتشفنا أن هؤلاء الزملاء يدرسون في كلية دار العلوم ، وأن هذه الجملة أحد الأمثلة الدراسية في مناهجهم على أسلوب غير شائع في تركيب الجملة، فالأصل أن يقال " أكلتنا البراغيث"، أو "البراغيث أكلتنا"، لكن قبيلة عربية كانت تقول " "أكلوني البراغيث" فاعتاد الطلاب التندر بها.
***
أعرف الآن أصدقاء هنا في الإمارات يتسابقون للحصول على تذكرة للسفر إلى مصر الذي يعقبه حجر صحي في المدينة الجامعية لمن لايريد الإقامة على نفقته في مرسى علم.


بعضهم يقول إن تذكرة السفر قيمتها 2000 درهم (نحو 9 آلاف جنيه مصري)، بينما كل ما أنفقناه في الدراسة لأربع سنوات في جامعة القاهرة والإقامة في المدينة لا يقترب من نصف هذا المبلغ.


بأسعار الفترة من 1993 إلى 1997، كان الوصول من قريتنا في المحلة إلى باب المدينة الجامعية يكلف 35 قرشاً فقط منها 10 قروش قيمة تذكرة أتوبيس 15 (رمسيس- صفط اللبن مروراً بالمدينة)، نعم عشرة قروش ، وهي عملة لا يعرفها أبناء الجيل الحالي.
وكنا ندفع 26 جنيهاً مقابل الإقامة والطعام شهرياً في المدينة.
***
كانت عُدة كل طالب في المدينة ملعقة وصابونة وفوطة وسخانا كهربائيا دائرياً تمنع اللوائح وجوده، لكن العرف استقر على استخدامه بتجاوز من المشرفين، فلا سبيل لإعداد الشاي غيره.


الرفيق الأعظم كان راديو الترانزستور الصغير ، تجده موضوعا على غالبية الشرفات في موعد بدء إرسال إذاعة أم كلثوم في الخامسة مساء، وعند بث إذاعة الشرق الأوسط في السهرة أغنية "الست"، وكان أكثر أعمالها تكراراً " ألف ليلة وليلة"، لكن أية أغنية كانت تستدعي معها تفاصيل قصص الحب التي تكاد تبدأ أو توشك أن تتحطم، أو تمضي إلى نهاية سعيدة.


لم يخل الأمر من مناوشات مع طلاب كانت ترفض أفكارهم هذا الحفل اليومي الذي تحييه أم كلثوم لقلوب خضراء ، وبعضهم درّب نفسه على التطرف واقتحم غرف زملاء لإسكات "الست"، لكنه تاب بعد رد الفعل الذي لقيه.
***
سهرات بلا عدد ومناقشات تسود صفحات مجلدات وضحكات لا ترهقها مسؤوليات الحياة ، عرفناها في سنوات المدينة الأربع . كلّت أيادينا من حمل الصواني في المطعم ثلاث مرات في اليوم ، ولهاث بين المحاضرات للحاق بموعد الغذاء، الذي إن فات يدمي القلب.
***

كانت المدينة بوحشتها حين تخلو من معظم طلابها ، خاصة في رمضان، لأنهم يفضلون قضاءه مع الأسر ، أو حين يغادر من أنهوا امتحانات نهاية العام قبل غيرهم، أحد محاور حياتنا، نأمن فيها الجوع والخوف ونخرج منها لنشتبك مع حياة أخرى في الجامعة أو الشارع أو أماكن التدريب والعمل الذي عرف بعضنا الطريق إليه مبكراً.
***
غافلنا الحراس مراراً وأدخلنا زملاء لنا من جامعات أخرى عاشوا معنا أياماً، ووقفنا في الشرفات نلقي علب الزبادي على من يذاكرون في الحدائق. قفزنا فوق أسوار الملاعب الخلفية إلى شارع الدقي للحاق بصلاة خلف الدكتور عمر عبدالكافي، إمام مسجد أسد بن الفرات.


أقمنا حفلات رقص بطلها مصطفى الخضري المنبعث صوته من الكاسيت، وكان محظوظاً من يملكه، بأغنية "فين كلامك ".


تبادلنا نسخة من شريط ماجدة الرومي "كلمات"، كان هدية من Mohamad Mostafa Othman ، وأحدهم استعار مني شريط نادية مصطفى "جاي فيه وسافرت في إيه" ثم تركه في البلد عند جارته وحينما عاد بعد فترة لإحضاره وجدها طُلقت وذهبت إلى حال سبيلها ومعها الشريط.
***
حين كنا نهم بمغادرة الجامعة نهائياً كانت المغدورة ذكرى تهتف على باب "مدينتي" باسمنا جميعاً "وحياتي عندك".
أما الذين عرفناهم في المدينة، فقصص طويلة قد تُروى يوماً.



مواضيع أخرى ربما تعجبكم

0 تعليقات

اترك تعليقاً

الحقول المطلوبة محددة (*).